أجرى أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي شمخاني، زيارة مهمة إلى العراق، في 19 مارس 2023، وقع خلالها مع نظيره العراقي، قاسم الأعرجي، وثيقة أمنية مشتركة تحت رعاية رئيس الوزراء العراقي، محمد شيّاع السوداني، تضمنت اتفاق البلدين على التنسيق في حماية الحدود المشتركة وتوطيد التعاون في مجالات أمنية عديدة.
وجاءت الزيارة بعد توصل طهران والرياض إلى اتفاق لاستئناف العلاقات الدبلوماسية خلال شهرين بوساطة صينية، في 10 مارس 2023، فضلاً عن زيارات شمخاني الخارجية بدءاً بالصين مروراً بالإمارات ووصولاً إلى العراق، وهو ما يحمل دلالات تتعلق بالتحركات الإيرانية في الإقليم في مرحلة ما بعد التوصل إلى الاتفاق مع السعودية.
سياق زيارة شمخاني
لم تكن زيارة شمخاني إلى بغداد مفاجئة، بل كان مخططاً لها منذ أربعة أشهر تقريباً حسبما أعلن وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، الذي مهّد لها خلال زيارته إلى بغداد، في 23 فبراير 2023، كما أن وثيقة التعاون الأمني المشترك التي وقعها شمخاني خلال هذه الزيارة قد استغرقت شهوراً من الإعداد والتنسيق بين الجانبين قبل الوصول إلى مرحلة التوقيع النهائي عليها. ولذلك فإن هذه الزيارة والوثيقة مرتبطان بسياقات مهمة ترتبط بالعلاقات الثنائية بين العراق وإيران من جانب، والتطورات الإقليمية شديدة التأثير في كلا البلدين والبيئة الإقليمية بوجه عام من جانب آخر، ومنها ما يلي:
1- خطر أكراد إيران: يمثل نشاط الأحزاب الكردية الإيرانية، مثل الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني، وحزب كوملة الكردستاني الإيراني، وحزب الحياة الحرة الكردستاني داخل أراضي إقليم كردستان العراق، فضلاً عن نشاط بعض الأحزاب الكردية المناوئة لإيران داخل الإقليم الدافع الأكبر لحرص إيران على تعزيز التعاون الأمني مع الحكومة العراقية لمنع كافة هذه الأنشطة، خاصة بعدما اتهمت إيران هذه الأحزاب بالتسبب في اضطرابات كبيرة داخل إيران وتنفيذ عمليات مسلحة تزامناً مع الاحتجاجات التي شهدتها، في سبتمبر 2022، ومن هذه العمليات استهداف مجمع وزارة الدفاع في أصفهان، في 29 يناير 2023، كما تدعي طهران.
وتنوعت الأدوات الإيرانية في التعامل مع هذا الملف، سواء من خلال الضربات العسكرية التي وجهها الحرس الثوري الإيراني لمواقع في كردستان العراق بشكل مكثف أواخر عام 2022، وأوائل 2023، علاوة على الضغط على الحكومة العراقية وحكومة كردستان العراق لتحجيم هذا النشاط، وهو ما كان الدافع وراء إصدار الحكومة قراراً، في 24 نوفمبر 2022، بوضع خطة لإعادة نشر قوات الحدود العراقية لمسك الخط الصفري على طول الحدود مع إيران وتركيا، والبدء في الوقت ذاته بالتنسيق مع إيران في صياغة وثيقة التعاون الأمني المشترك التي وقعها شمخاني خلال زيارته إلى بغداد.
وارتأت بغداد وأربيل أن توقيع هذه الوثيقة قد يؤدي إلى تهدئة مخاوف إيران، خاصة وأن الحكومة العراقية سوف تضمن عدم قيام المجموعات المسلحة الكردية الإيرانية بالعمل من داخل كردستان العراق لاستهداف إيران.
2- الاتفاق السعودي الإيراني: لا تنفصل زيارة شمخاني إلى العراق عن الخطوات الإيرانية الأخيرة على مستوى الإقليم، وخاصة الاتفاق الموقع بين إيران والسعودية في بكين يوم 10 مارس 2023 لاستئناف العلاقات بين البلدين؛ إذ تؤذن هذه الخطوات ببلورة سياسة إيرانية جديدة للتعامل مع المنطقة بوجه عام، والدول التي تمتلك فيها حضوراً وتأثيراً، مثل العراق واليمن ولبنان، على وجه الخصوص، في إطار ما يُعرف لدى إدارة الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، بـ"دبلوماسية الجوار" التي تركز وفق المفهوم الإيراني على التعاون الشامل مع دول الجوار وتعزيز أمن واستقرار شعوب المنطقة.
ويلاحظ أن هذه السياسة لا تعكس فقط توجهات رئيسي، ولكن كذلك المرشد الإيراني، علي خامنئي، وهو ما ظهر في أن جُل هذه التحركات الإيرانية الأخيرة قد قام بها علي شمخاني، والذي يعد ممثل المرشد، علاوة على كونه أمين المجلس الأعلى للأمن القومي.
وتبدو أهداف طهران من توقيعها الوثيقة الأخيرة مع بغداد اتساقاً مع هذه التحركات في تأمين الجبهة العراقية وعدم استخدامها منطلقاً لعمليات تطال الداخل الإيراني قد تستدعي رداً إيرانياً عسكرياً داخل العراق، سواء بشكل مباشر، أو من خلال مليشياتها في العراق، ومن ثم فرض السكون العملياتي على هذه المليشيات حتى لا يؤثر ذلك في مسار المصالحات الإقليمية.
3- أزمة تهريب الدولار: كان البعد الاقتصادي أحد الأبعاد المهمة لزيارة شمخاني إلى العراق، ولاسيّما أنها قد تزامنت مع الأزمة الحادة التي يواجهها العراق فيما يتعلق بسعر صرف الدينار العراقي مقابل الدولار الأمريكي، والتي ترتبط في أحد مسبباتها الأساسية بمحاولة الولايات المتحدة الأمريكية تضييق الخناق على انتقال الدولار من العراق إلى إيران بالتزامن مع ارتفاع وتيرة عمليات تهريب الدولار إلى إيران بشكل هائل، وجاءت كذلك بعد الزيارة التي أجراها وفد حكومي عراقي إلى الولايات المتحدة، في 8 فبراير 2023، لبحث هذه الأزمة مع المسؤولين الأمريكيين.
وهنا تظهر أهمية الوفد الذي رافق علي شمخاني في زيارته إلى بغداد، والذي تكون من كل من محافظ البنك المركزي ونائب وزير الخارجية لشؤون الدبلوماسية الاقتصادية ومساعد وزير الخارجية للدول المطلة على الخليج العربي؛ إذ يمثل الهدف الأمريكي الأساسي من وراء تلك الإجراءات تقليص الاعتماد العراقي على إيران وفك الارتباط بها في الأمور الاقتصادية والمالية والتجارية، وهو ما رتّب هذا التحرك من جانب إيران لموازنة هذه الضغوط، بجانب توفير بدائل تسهم في حل الأزمة الاقتصادية العراقية.
وقد صرح محافظ البنك المركزي الإيراني، محمد رضا فرزين، بأنه بعد زيارة شمخاني إلى العراق ستتاح فرص جديدة للأخير، وسيتحسن وضع سوق الصرف به، وأنه تم الاتفاق بين الجانبين على آليات جديدة لتسهيل المدفوعات والتبادل التجاري، ما من شأنه تحسين وضع سوق العملات في العراق، وذلك دون تقديم توضيحات كافية حول كيفية حدوث ذلك.
دلالات الوثيقة الأمنية
يلاحظ أن إيران سعت من خلال إبرام الاتفاق مع العراق إلى تحقيق عدد من الأهداف، يمكن تفصيلها على النحو التالي:
1- تأكيد نفوذ طهران: تزامنت زيارة علي شمخاني إلى بغداد مع الذكرى العشرين للغزو الأمريكي للعراق، وكذلك زيارة وزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن، في 7 مارس 2023، إلى العراق، والتي هدفت إلى تأكيد الشراكة الاستراتيجية بين واشنطن وبغداد وشدد خلالها أوستن على استعداد القوات الأمريكية للبقاء في العراق، وبالتالي فإن زيارة شمخاني حملت دلالة واضحة من إيران بأن حضورها داخل العراق باقٍ وغير قابل للتنازل تحت وطأة التصالح الإقليمي أو الضغط الغربي.
وتبعث الوثيقة الأمنية المشتركة التي وقعتها طهران وبغداد خلال زيارة شمخاني والإجراءات المتعلقة بتسهيل المدفوعات والتبادل التجاري رسالة كذلك بأن هذا النفوذ الإيراني داخل العراق، علاوة على بقائه، سيزداد بصورة أكثر مؤسسية دون الاقتصار على العلاقة مع الفصائل المسلحة المدعومة من جانب طهران، وهو ما تشير إليه كذلك رمزية أن أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني بما يحمله منصبه من دلالات مؤسسية وأمنية وشخصية هو من أجرى هذه الزيارة ووقع الوثيقة الأمنية، وليس قائد فيلق القدس بالحرس الثوري، إسماعيل قاآني، الذي اعتاد القيام بمثل هذه الزيارات، ولقاء المسؤولين العراقيين وقادة الفصائل العراقية المسلحة.
2- القلق من الانفتاح العربي: تدلل زيارة شمخاني إلى العراق، وتوقيعه الوثيقة الأمنية المشتركة بعد وثيقة تعاون مشابهة وقعها العراق مع السعودية، على أن هناك مسعى إيرانياً واضحاً لتعزيز العلاقات مع العراق، خوفاً من انفتاحه على محيطه العربي، خاصة بعد النجاح الجزئي الذي يُنسب إلى العراق في التوصل إلى هذا الاتفاق بين طهران والرياض بعد استضافته خمس جولات مباحثات بين البلدين خلال الشهور الماضية.
وقد تشهد الفترة المقبلة تزايداً في وتيرة، إما إبرام اتفاقيات تعاون اقتصادي جديدة بين العراق والدول العربية، وخاصة دول الخليج، أو في تسريع وتيرة تنفيذ الاتفاقات المبرمة مسبقاً، مثل الاتفاقات الناتجة عن آلية التعاون الثلاثي بين العراق ومصر والأردن. ولذلك جاء الاتفاق بين إيران والعراق ليضمن للأولى حفاظها على نفوذها في بغداد، على الرغم من انفتاحه على الدول العربية.
3- الضغط على إقليم كردستان: تتهم إيران بعض الأحزاب الكردية الإيرانية المقيمة داخل إقليم كردستان العراق بالارتباط بحزب العمال الكردستاني وبالحزبين الكرديين الرئيسين في الإقليم، وهما الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني أو أحدهما؛ ولذلك كله تهدف إيران من خلال توقيعها الوثيقة الأمنية المشتركة مع الحكومة العراقية إلى إرسال رسالة إلى كردستان العراق بضرورة تحييد حركة الأحزاب والعناصر الكردية داخل الإقليم وطردها من جانب، والتوقف عن استغلال أراضي الإقليم كمنطلق لنشاط معادٍ لطهران، وفقاً للاتهامات الإيرانية.
وفي الختام، تحاول إيران البناء على ما تحقق بعد الاتفاق على استئناف العلاقات الدبلوماسية مع السعودية وأن تخطو خطوات متقدمة في تعزيز نفوذها في العراق. ومن المحتمل أن يعقب هذه التحركات الدبلوماسية والأمنية الإيرانية تحركات مشابهة مع عدد من الدول العربية لاستيعاب الخلافات معها. بيد أن تحقق كل هذه المساعي يبقى رهناً بما ستؤول إليه خلافات إيران مع القوى الدولية وإسرائيل بشأن برنامجها النووي ووجودها العسكري في سوريا، وما إن كان سيظل قابلاً للاحتواء أم يتجه إلى التصعيد هذا من جانب. ومن جانب آخر، سيظل رهناً بقدرة الحكومة العراقية على بسط سيطرتها على الحدود مع إيران وتركيا، خاصة وأن ذلك الموضوع كان أحد الجوانب التي ناقشها السوداني خلال زيارته إلى أنقرة بعد يومين من توقيع الوثيقة الأمنية مع طهران.